الرجل يمشي بهدوء، عاقدا ذراعيه خلف ظهره... يستعرض الخيارات المتبقية لعشاء الليلة ويتذكر... اليوم انفض المولد وغدا أعود للمدرسة... يقف عند بسطة الخضار ويقرر... هذا عشائي الأخير... غدا سأقبل على المغامرة وأدلف جسدي في أول قارب وإن لم يكن شرعيا... أي موج ضارب في الجنون سيكون شرعيا أكثر من يابستي اليابسة تلك... وهو في مكانه نفسه يسمعها تدعو له بطول العمر أن يتقاسم وإياها حبات البصل والبندورة لأنها بجد جائعة ولم تأكل منذ البارحة... ينظر إلى عينيها البلديتين ويتراجع... حسنا سأصبر... أنتما وطني البديل!!
المرأة يقض مضجعها خبر الفقر الذي تسلل الى عروق الأطفال، وامتص نصف دمائهم، وها هو ذا يمد لسانه مهددا الجيل القادم بأنيميا تسلخ أيامهم... 54% من الأطفال يعانون فقر الدم... والمختصون المبرمجون يتحايلون على شح التروية ويدقون ناقوس خطر الشيبس والعلكة والعصير الفاسد!
تتحسس المرأة جوازات سفر ابنتيها من تحت وسادتها وتعيد على نفسها ترنيمة النوم... غدا أبحث لنا عن هواء وماء وأفق ودماء...
وحين يطلع النهار تستيقظ على أصوات الصغار في المدرسة المجاورة ينشدون من دون انسجام... موطني موطني... تسحب يدها من تحت الوسادة وتبتسم للسقف وتقبل أصواتهم المزعجة وتتذكر... حسنا سأصبر، حناجركم هي وطني البديل!
الصحافية التي رفض تحقيقها عن "إدمان الحشيش" لأسباب أمنية، تدق بأصابعها على حافة شباك السيارة وتنظر من خلف نظارتها الشمسية إلى رقيب السير الذي أوقفها من أجل... أن يوقفها!
تستغرب معه كيف أن رخصة القيادة لا تحوي خانة لاسم الأم! وتعده أنها ستبقي على حزام الأمان مربوطا حتى دخولها إلى السرير...
وحين تمضي وتتأكد أنه صار على زجاج مرآتها الأمامية تمسك هاتفها المحمول وتتصل بصاحبتها لتبدأ حفلة السباب على رجال يتحكمون بطريقها، بدءا من رئيس تحرير لا يجرؤ، وليس نهاية بزوج لا يقرأ!
فجأة تقفز أمامها بنت شقية بمريول المدرسة الحكومية... تحتفل بأول بشائر الصيف وتلتهم على عجل عود بوظة ثلجية ملونا قبل أن تصل الدار... فتعرف الصحافية العصبية أن الحياة هنا تتسع لقضم المثلجات، وما عدا ذلك فهو قيمة مضافة!
تفتح زجاج السيارة التي كانت ستصدم جرأتها وتصرخ بوجهها... حسنا سأصبر فأنت وطني البديل!
فيا وطنا غلَق طاقات الفرج بمتاريس الأقحوان والعليق والياسمين، ولقنني أن حاسة الشم تنوب عن كل الحواس... يا ألما يزداد ألما يعصر بخاصرتي من ناحية الكبد... دعني أشق طرف الثوب من أسفله علَّ نيسان القادم بعد غد يعيرني بعضا من غبار طلعه... فأزهر شيحا وميرمية وزعترا... على الأقل لن نصاب أنا وأنت بالبرد ولا بمغص الأيام... افعل ذلك وأغمض عينيك عني... ثق بي ولو مرة ... لأنك، وطني وأنا، الوطن البديل!