تقدم الندوة التي عقدت في الجامعة الأردنية تحت عنوان "ثقافة الفقر"، وعرضت دراسات وأفكارا من قبيل الإعلام والفقر، وقياس الفقر في الأردن، وتأنيث الفقر، وتجربة وزارة التنمية الاجتماعية، وصندوق المعونة الوطني، تقدم مناسبة للنظر إلى الفقر باعتباره ليس مجرد ظاهرة أو أزمة أو مشكلة تستدعي المواجهة، مثل حوادث المرور أو الفساد أو العنف المجتمعي على سبيل المثال، ولكن الفقر في حقيقة الحال هو تعبير عن التوازن بين الطبقات والسياسات والقوة والنفوذ، فهو محصلة ميزان القوة والنفوذ والتأثير، والنظر إلى أنه يحل بتقديم المساعدات إلى الفقراء، يزيد الظاهرة تفاقما.
بل إن قضية المساعدة بحد ذاتها تنطوي على قدرعلى كبير من الضرر للمجتمعات والتنمية بعامة، فهي سياسة تصلح للتعامل مع حالات محددة تفشل من الاستفادة من المنظومة العامة للاقتصاد والتنمية، ويشكل أصحابها فئة قليلة ومحدودة من المجتمع، يمكن أن تزيد على نحو مؤقت في الأزمات والكوارث، ولكنها بعامة تدور حول فئات تعجز عن العمل والمشاركة في المنظومة الاقتصادية القائمة، مثل الأيتام، والأرامل، والمرضى، والعاجزين، والعاطلين عن العمل (الذين يجب أن يشكلوا نسبة ضئيلة جدا من الناس)، ولكن عندما يصل الفقر إلى الذين يعملون، أي عندما يعجز العمل عن حل مشكلة الفقر، وعندما يتعلق بالتحديات التي تواجهها طبقات واسعة من المجتمع في تحسين مستوى حياتها، كما هو الحال عندنا في الأردن وكثير من الدول العربية، فإن الفقر يتصل أساسا بالتمكين والمشاركة في الموارد والسياسات والقرارات العامة والإدارة الرشيدة.
والواقع أن التمكين والمشاركة بدآ يدخلان في قاموس المنظمات الدولية كالأمم المتحدة للتنمية البشرية والبنك الدولي، باعتبارهما مقياسا لتحديد الفقر ومعيارا لتقييم برامج الدول وجديتها في التنمية. وهو مفهوم للفقر والتنمية يعود إلى الوعي المبكر للناس والمجتمعات، عندما لم تكن النقود تشكل قيمة أساسية في الحياة، وكان الغنى يحدد بالنفوذ والتأثير والقوة، بل إن كلمة rich الإنجليزية تعني في جذورها المهجورة اليوم النبيل والملك، وظل الثراء يعني، حتى منتصف القرن التاسع عشر، الملاك، ويبقى من يحصل على المال من وراء عمله يعتبر فقيرا مهما كانت ثروته كبيرة.
وما أعنيه بهذا الاستطراد، هو أن حل مشكلة الفقر والطبقات الوسطى يعني ببساطة ووضوح رفع سوية الخدمات والمرافق العامة، في التعليم والصحة والماء، والعدالة في الفرص، والمشاركة في الموارد العامة، والحريات العامة. وبعد أن يعاد إنفاق الموارد العامة والفرص بعدالة على الفئات السكانية والاجتماعية والمحافظات والمناطق، يفترض أن لا تستطيع فئة من الناس، لا يجوز أن تزيد بحال عن 3 % من السكان، توظيف المنظومة الاقتصادية والاجتماعية العامة، فتكون وظيفة المساعدات والزكاة والإغاثة مساعدة هذه الفئة، ولكن لا يمكن بحال التفكير بهذا الأسلوب عندما يكون 70 % من المواطنين محرومين.